المادة    
قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى:
[وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين، فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه، من التوراة والإنجيل والزبور، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه، لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله تعالى].
  1. معنى الإيمان بالكتب

    الشرح: قوله رحمه الله: [وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين، فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه، من التوراة والإنجيل والزبور]، هذا هو الركن الثالث من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالكتب. ومعناه: أن نؤمن بما أنزل الله تبارك وتعالى من الكتب، فنؤمن ببعضها على سبيل الإجمال، ونؤمن ببعضها على سبيل التفصيل.
  2. الإيمان التفصيلي بالكتب المنزلة

    فما سمى الله تبارك وتعالى منها وذكره باسمه، نؤمن به كما سماه الله عز وجل، وأما ما لم يسم فنؤمن به إيماناً مجملاً، فمما سمى الله التوراة والإنجيل والزبور، فأما التوراة فقد وردت تسميتها في القرآن في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا))[المائدة:44]، وقوله تعالى: ((وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ))[المائدة:43]، وقوله تعالى : ((ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ))[الفتح:29]، وقوله تعالى: ((وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ))[آل عمران:50]، وقوله تعالى: ((مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ))[الجمعة:5]، وهم علماء اليهود.
    وكذلك ورد ذكر الإنجيل في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ((وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ))[المائدة:46] وقوله تعالى: ((وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ))[المائدة:47]، وقوله تعالى: ((وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ))[آل عمران:48]، أي: عيسى عليه السلام، وقوله تعالى: ((وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ))[آل عمران:65].
    وأكثر ما ذكر في القرآن من الكتب التوراة والإنجيل؛ لأنهما أنزلا في الأمتين اللتين أورثنا الله تبارك وتعالى الكتاب من بعدهما، ولهذا يرد في القرآن ذكرهما وذكر أحوالهما كثيراً.
    ومما أنزل على بني إسرائيل من الكتب: الزبور، قال تعالى: ((وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا))[النساء:163] ومعنى الزبور: الصحيفة المكتوبة، وقال تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ))[الأنبياء:105]، وقد جاء النص على أن الله أعطى الزبور لداود كما في الآية السابقة.
    فالتوراة أنزلها الله تعالى على موسى، وأنزل الزبور في الزمن الذي بين نزول التوراة ونزول الإنجيل، كما تدل عليه آية البقرة في قصة طالوت وجالوت، قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى...))[البقرة:246] الآيات، وفيها قوله: ((وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ))[البقرة:251].
    وهناك كتب أخرى ذكرت في القرآن: كصحف إبراهيم، قال تعالى: ((إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى))[الأعلى:18-19] وقال تعالى: ((أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))[النجم:36-38]، فذكر الله سبحانه وتعالى أنه أنزل صحفاً على إبراهيم عليه السلام، فعلينا أن نؤمن بأن الله تعالى أنزل هذه الكتب، وكما قلنا في الرسل، فهنا أيضاً نقول: ما ثبت في القرآن أو في السنة أن الله سبحانه وتعالى أنزله على رسول من رسله آمنا به.
  3. الإيمان الإجمالي بالكتب المنزلة

    وأما ما عدا ذلك فنؤمن بما أنزل الله من الكتب إجمالاً، كما قال تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: ((فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ))[الشورى:15]، هذه الآية من سورة الشورى يقول عنها ابن كثير رحمه الله: هذه الآية لا نظير لها سوى آية الكرسي؛ لأنها تضمنت عشر جمل كل جملة لها معنى، كما هو الحال في آية الكرسي.
    وقد ذكر المصنف رحمه الله آيات كثيرة، منها ما ذكر الله سبحانه وتعالى فيها اختلاف الأمم فقال: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ))[البقرة:213]، والقول الصحيح في تفسير قوله تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً))[البقرة:213] ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنه بقوله: [[أمة واحدة على التوحيد]]، أي: كان بين آدم ونوح عشرة قرون على التوحيد، حتى وقع الشرك في قوم نوح، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، والتقدير هنا: (كان الناس أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا فبعث الله النبيين)، وهذا من الإيجاز، وهو يسمى: الإيجاز بالحذف، وقوله: (فاختلفوا) قد رويت قراءةً عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لكنها غير متواترة، وهي: (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا) إذاً: هذا هو القول الأول.
    القول الثاني: أنهم كانوا أمة واحدة على الكفر، وقد نقل هذا القول عن بعض السلف، والذين قالوا بهذا القول لا يتصور أنهم ينكرون أن آدم عليه السلام وذريته الأولى كانوا على التوحيد؛ لكنهم نظروا إلى حال الناس عندما بعث نوح عليه السلام، فإن الشرك كان قد عم حتى أصبحوا أمة واحدة على الشرك، على قول هؤلاء، فأرسل الله سبحانه وتعالى الرسل، وأولهم نوح عليه السلام، ولكن هذا قول مرجوح، والصحيح أنهم كانوا أمة واحدة على التوحيد والإيمان الحق، فاختلفوا وتفرقوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب، والمقصود بالكتاب هنا جنس الكتاب.
    فهذه الكتب نور من الله سبحانه وتعالى، وفيها حجج وبراهين وآيات عظيمة تقوم بها الحجة على العالمين، وقد أنزل الله تعالى الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فيجب على الناس جميعاً أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله تعالى من الوحي.
    إذاً: فالكتاب يرد ويقصد به الكتب جميعاً، ويرد أيضاً ويقصد به القرآن وحده، وهذا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ((الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ))[يوسف:1].. ((تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ))[يونس:1] وغيرها.
    وكل الكتب تدعو إلى شيء واحد هو عبادة الله وطاعته، والكفر بالطواغيت والأنداد وما يعبد من دون الله، فهي كتاب بهذا المعنى، وهي كتب باعتبار الأفراد، فما في التوراة غير ما في الإنجيل، وما في الإنجيل غير ما في القرآن، وما في القرآن غير ما في الزبور... إلخ.